بينما كنت أقرأ في كتاب أخبار النساء إذا بي أجد هذه القصة الجميلة جداً
جداً جداً التي رسم الحب والطمع في المال والوفاء أركانها – لا تفوتكم-.
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق،
وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه،
إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد
الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه
في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله
لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان
شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول
متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ
من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال
له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ
أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل*** ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي*** فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي*** شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي*** وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني*** بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي*** تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّة*** فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي فلمّا فرغ
من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم
تسمعه
لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال
معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت
عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال
جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم
بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت
أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ
فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب
عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال
بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ
ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه،
فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك
وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط.
قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث
إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت
بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار
لي يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت
من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي،
وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن
طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك. فلمّا كان من الغد
بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: ياأعرابي
طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في
اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى.
فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر
أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال:
عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر
السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق
سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك. فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً
واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت
عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك
وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني
الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه
تفيض. ثمّ
أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ*** والنّار فيه الدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ*** فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً*** فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً*** فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ*** ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً*** فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي*** يثيبك الجبّار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في
ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس،
وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في
حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد
أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب
إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود
الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً
على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما
الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن
يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه*** فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ*** مع القراطيس تمثالاً وفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً*** يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها*** حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به*** لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً*** مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ*** ولا كفعلك حقاً فعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها*** أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا
وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّ
بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب.
فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت
إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في
أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني
معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى
معاوية
بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد*** أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني*** فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت*** منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها*** عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولا الخليفة ما طلّقتها أبداً*** حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ*** حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على
معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات،
ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ
لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل
إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها
النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي
أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقف بين يديه، قال له
معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ
جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ
والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين،
وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي
على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية وأسوأ حالٍ، أعوذ بعدلك يا أمير
المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ*** كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ*** يمسي ويصبح في همٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌ ما مثله قلقٌ*** وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها*** حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها*** فإن فعلت فإني غير كفّار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ*** لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليلى وبغّضت*** إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً*** فأبهت حتّى لا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن
نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ
قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره،
أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟
فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار*** أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله*** وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت
لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى
الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي
معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها
بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
جداً جداً التي رسم الحب والطمع في المال والوفاء أركانها – لا تفوتكم-.
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق،
وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه،
إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد
الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه
في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله
لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان
شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول
متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ
من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال
له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ
أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل*** ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي*** فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي*** شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي*** وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني*** بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي*** تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّة*** فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي فلمّا فرغ
من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم
تسمعه
لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال
معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت
عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال
جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم
بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت
أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ
فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب
عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال
بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ
ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه،
فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك
وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط.
قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث
إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت
بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار
لي يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت
من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي،
وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن
طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك. فلمّا كان من الغد
بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: ياأعرابي
طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في
اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى.
فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر
أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال:
عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر
السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق
سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك. فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً
واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت
عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك
وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني
الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه
تفيض. ثمّ
أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ*** والنّار فيه الدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ*** فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً*** فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً*** فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ*** ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً*** فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي*** يثيبك الجبّار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في
ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس،
وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في
حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد
أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب
إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود
الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً
على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما
الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن
يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه*** فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ*** مع القراطيس تمثالاً وفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً*** يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها*** حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به*** لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً*** مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ*** ولا كفعلك حقاً فعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها*** أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا
وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّ
بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب.
فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت
إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في
أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني
معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى
معاوية
بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد*** أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني*** فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت*** منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها*** عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولا الخليفة ما طلّقتها أبداً*** حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ*** حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على
معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات،
ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ
لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل
إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها
النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي
أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقف بين يديه، قال له
معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ
جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ
والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين،
وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي
على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية وأسوأ حالٍ، أعوذ بعدلك يا أمير
المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ*** كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ*** يمسي ويصبح في همٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌ ما مثله قلقٌ*** وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها*** حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها*** فإن فعلت فإني غير كفّار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ*** لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليلى وبغّضت*** إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً*** فأبهت حتّى لا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن
نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ
قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره،
أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟
فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار*** أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله*** وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت
لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى
الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي
معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها
بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.