قام عالم سلوك الحيوان ديزموند موريس فى كتابه الشهير «حديقة الحيوان
البشرية «The Human Zoo» بشرح سلوك الحيوان فى حديقة الحيوان مقارنة
بسلوكه فى الغابة، عندما تحرمه من الحرية وتضعه فى قضبان من الحديد وتأسره
فى قفص كتسلية للمترددين على حديقة الحيوان، حينئذ يتغير سلوكه كلياً
ليصبح عدوانياً، عاجزاً، يائساً بل يهجم أحياناً على من يطعمه وهكذا يناقض
تماماً سلوكه فى الغابة، حيث يتميز بالشجاعة ولا يهاجم فريسة إلا إذا كان
جائعاً ويتمتع بوجوده فى جماعته ويتوحد معها، ومن هذا تظهر جلياً قيمة
الحرية عند الحيوان والمأساة المترتبة على أسره فى قفص، ثم استطرد بأن هذا
يتطابق مع الشعوب التى تعيش فى حديقة حيوان بشرية،
ويعنى بهذه الشعوب التى حرمت من الحرية والآدمية، والتى كبلت وغلغلت
أفكارهم ووضعت فى قوالب متشابهة مع إحساسهم بالظلم، وإنهم يسيرون فى
حياتهم كالإنسان الآلى الذى وجب عليه الالتزام بما هو مفروض عليه، وليس له
أدنى الحق فى المطالبة بحقوقه وإلا اعتقل لأفكاره ومعتقداته المخالفة لما
هو مفروض،
فلا يوجد إذن احترام لإنسانيتهم، وعند ممارسته القمع والقهر على أفكارهم،
يتغير سلوكهم من التسامح ومساعدة الغير والوسطية إلى التطرف والتمركز حول
الذات وعدم الانتماء إلى الجماعة والعدوانية، ويصبحون عرضه للإحساس بالعجز
واليأس وعدم القدرة على الابتكار أو إتقان أى عمل، ويفقدون الانتماء
للقيم أو الأخلاق مقارنة بهؤلاء الذين يتمتعون بالعدل وحرية التعبير عن
الرأى والإحساس بالشفافية والمساءلة.
كما أوضح أيضاً ديزموند فى كتابه أن الحيوانات تميل إلى العدوانية إذا زاد
تكدسها فى مكان واحد وفقدت مساحاتها الشاسعة، وإذا قمنا بتطبيق هذا على
المجتمعات البشرية التى تعانى من التكدس السكانى فى مساحات ضئيلة من الأرض
لوجدنا أنهم يفتقدون الإحساس بالحرية والتمتع بالخصوصية، ويعتبر هذا من
العوامل المهمة لظهور العدوانية والأنانية، فيتحول الإنسان الذى وصف
بالطيب إلى طاغية وقاس، وقد يحدث ذلك تحت ضغط أخلاق وسلوك الجماعة.
ويذكرنى ذلك بالتجربة التى قامت بها جامعة ستانفورد لدراسة ردود أفعال
الناس العاديين فى وضع كوضع نزلاء وحراس السجون، وذلك بتصميم بحث يتضمن
وضع مجموعة من المتطوعين فى ظروف محاكية لظروف السجون، بعضهم يقوم بدور
السجناء، وبعضهم يقوم بدور الحراس، وذلك من أجل خلق ردود أفعال نفسية
متباينة، من نوع:
مشاعر القوة والعجز، والسيطرة والاضطهاد، والإشباع والإحباط، والحكم
الاستبدادى ومقاومة السلطة، وأثبتت التجربة أن حرمان الفرد وتجريده من كل
حقوقه الإنسانية بعزله فى زنزانة مغلقة يجعله عرضه للتغير فى السلوك مع
الشعور بالعجز واليأس والانهيار النفسى،
كما أظهرت أيضاً أن السجان أو الحارس حين منح القوة المطلقة، بدأ فى إصدار
الأوامر وتعذيب السجناء مما جعله يتعلق بالتجربة ويصر على الاستمرار
فيها، ومن هنا نستخلص أن من يمارس السلطة المطلقة دون
مساءلة أو ردع تتغير شخصيته ويصبح توحده مع هذه السلطة المطلقة هو بمثابة
شهوة قوية تجعله لا يستطيع العودة إلى طبيعته الأولى،
ولذا شددت كل دساتير العالم على ضرورة احترام
حرية الفرد وتبادل السلطة حتى تنهض الأمم، ويشعر مواطنوها بالكرامة
والعزة، حيث يوجد الكثير من شعوب العالم مغلوبة على أمرها تعيش متغلغلة فى
سجن كبير يعانى فيه المسجون من ويلات القهر بينما يتمتع فيه السجان
بسلطته المطلقة.
ومما سبق نستنبط إذن محورين حيويين: أنه يجب تعميم المعاملة الإنسانية على
جميع المساجين أو الشعوب المسجونة فكرياً، والابتعاد الكامل عن منح
السلطة المطلقة للأفراد المسؤولين دون رقابة صارمة.
ها هى سلطة تجريبية، وأشخاص خالون من الانحراف النفسى، ومع ذلك نشأت لديهم
«متعة» خبيثة من ممارسة السلطة والتسلط على مقهورين خانعين، أليست هذه
صورة صارخة لنفوذ السلطة على النفوس الإنسانية، وفضح آلية تحول الكائن
الإنسانى إلى وحش أعمى يعربد استمتاعاً بالسلطة والتسلط.
وينتهى بنا القول إلى أن القوة والسلطة
المطلقة ما هى إلا مفسدة مطلقة
الناضجة فى الشخصية، وذا ثبات انفعالى، ويتحلى بمكارم الأخلاق فالإحساس
بالقوة المطلقة وعدم التعرض للمساءلة يؤدى إلى تغير تام فى الشخصية
واستعذاب إيقاع القمع والقهر وهدر حقوق الآخرين،
وأيضاً الاستمتاع بهذا الدور والتعلق الشديد بالمنصب الذى يؤمن له هذه
السلطة المطلقة. وإذا طبقنا هذه المقالة على الوضع الراهن فى كثير من
البلدان العربية فسنجد أن السلطة المطلقة والإذعان القهرى لأفراد الشعب
والفجوة المتسعة بين الشعب والسلطة القهرية أدت إلى حالة من اللا مبالاة
والتبلد، الخنوع والاستسلام بحيث أصبح المواطن ليس لديه الرغبة فى إتقان
عمله،
وتولدت لديه سلوكيات العبيد من النفاق والتملق، والمداهنة، والكذب، ولكى
نعود بالشخصية العربية لسابق عهدها وجب علينا محاربة بؤر الفساد، وتحديد
السلطة والابتعاد عن أن تكون السلطة الممنوحة مطلقة لكى تعود كرامة
المواطن العربى لما كانت عليه من رفعة وعزة.
فلنبدأ إذن بنزع القيود الحديدية التى تكبل الآمال والأفكار والقيم
والأخلاقيات والأهداف فمن خلال تجاربى المتعددة والمبنية على احتكاكاتى
بجميع طبقات المجتمع من غفير إلى وزير ومن أستاذ جامعى إلى رئيس عمال، ومن
رئيس تحرير إلى رئيس قسم ثبت لى بما لا يدع مجالاً للشك أن الاستمرار فى السلطة المطلقة له تأثير سيئ على شخصية المواطن،
وتعوقه عن الاهتمام بالآخرين والتمركز بالتالى حول الذات،
فيصبح الكون يدور فى فلكه هو دون الآخرين فهو الوحيد الذى يعلم ببواطن
الأمور، فهو يعتقد أنه أصبح مبعوث العناية الإلهية!! لذا فإن تبادل السلطة
والإحساس الدائم بالتعرض للمساءلة هو الحل الوحيد للنهوض بالصحة النفسية
لشعوب العالم المقهورة والمقيدة فى أغلالها.
إن السلطة والقوة مرضان لهما البريق والسيطرة، بل أحيانا شهوة السلطة
تتفوق على مشاعر الأبوة والأمومة وكم من روايات فى التاريخ تخلص فيها الأب
أو الابن من الآخر فى سبيل شهوة السلطة المطلقة.
لا مانع من السلطة ولكن يجب أن يسودها العدل والمساءلة